شمعون دنحو - السويد
أثارت الصحافية الروسية (لينا سوبونينا) في مقابلة اجرتها
مؤخراً مع الزعيم الكردي مسعود البارزاني ونشرتها احدى الصحف
العربية[i]
مسألتين مهمتين، تتعلق بهما الكثير من افرازات الماضي، وحل
المشكلة الكردية أو تعقيدها. ولأهمية هاتين المسألتين توقفنا
عندهما بغية توضيحهما خدمة للحق والحقيقة. علما أننا نتعاطف
مع الاكراد وقضاياهم بقدر ما تمت هذه القضايا الى الانسانية
والحق والشرعية بصلة.
1 – مطلب الفيدرالية والدولة:
يصرح السيد مسعود البارزاني وهو زعيم الحزب الديمقراطي
الكردستاني في سياق رده على سؤال الصحافية الروسية حول مطلب
الاكراد بالفيدرالية وتمنياتهم في اقامة دولتهم على أرض
العراق بما يلي: (صحيح أن أمنية كل الاكراد هي إقامة الدولة
المستقلة على الصعيدين الرسمي والشعبي لكن الظروف الدولية
والإقليمية لا تسمح برفع شعار الدولة المستقلة وعلينا ان
نكون واقعيين ونرفع شعارات ممكنة التحقيق).
يتبين من هذا التصريح الذي أدلى به السيد البارزاني وعبر من
خلاله عن أراء شريحة واسعة من الاكراد، وكأن العراقي
المغاير عن الاكراد هو (المغتصب) لأرض (الاكراد)، وان
الاكراد قد أقاموا في شمال العراق منذ الأزل! لهذا، يوضح
البارزاني أن أمنية كل الاكراد هي اقامة (الدولة الكردية).
ونضيف، ولكن على أراضي هي للغير.
هذه الصورة التي توحي بأن أبناء بابل وأشور وبغداد
(العراقيون) يحتلون أراضي الغير، هي بعيدة عن الحقيقة، ولا
تمت الى الواقع بصلة. ان تواجد اكراد في العراق، لا يعني
بالضرورة أن لهم حق اقتطاع أجزاء منه، والا لكان من حق
الاتراك في المانيا اقامة دولة تركية هناك لأن تعدادهم نتيجة
الهجرة قد بلغ اكثر من 5 ملايين تركي، أي اكثر من عدد
الاكراد في العراق! وهناك ايضا الجالية المغربية في فرنسا
وغيرها في مختلف الاصقاع.
ومن المؤكد اليوم أن حصول الأكراد على الحكم الذاتي في
العراق لم يعد يلبي طموحهم، فقد طرحوا أولاً شعاراً واضحاً
وهو (الحكم الذاتي الحقيقي للأكراد)، اما الان فقد تطور هذا
الشعار الى (الفيدرالية)، ولكن السيد البرزاني قد أظهر
(مرونة واضحة) من خلال تأجيله لمشروع (الدولة الكردية)، لأن
الظروف الدولية والإقليمية لا تسمح بتحقيق هذا المشروع. وكان
قد صرح البارزاني قبل مدة أمام عدد من كوادره بما يلي: ان
الفيدرالية حق طبيعي للشعب الكردي ولا يمكن التنازل عنه
وانهم "أي الاكراد" لم يطالبوا باقامة دولة مستقلة، ليس
لان هذا لا يحق لهم ولكن لانهم يعرفون الظروف الدولية،
وهم لا يقدمون علي خطوات لا تكون في مصلحة الاكراد.
2 – كركوك: كردية أم عراقية ؟
سألت الصحافية الروسية: (من المعروف أن أهم نقاط
الاختلاف بين الاكراد وبغداد تتركز حول منطقة كركوك، أليس من
الأفضل ان تكونوا مرنين وتتخلوا عن هذه المدينة من أجل تحقيق
أهدافكم في أسرع وقت؟). وكان رد السيد البارزاني واضحاً: (ان
مثل هذه المرونة كما وردت في السؤال غير ممكنة فكركوك أرض
كردية بشعبها وتاريخها، لكننا من الممكن ان نتفق مع
بغداد على بعض الإجراءات الفنية.).
ان رد البارزاني هذا، فيه الكثير من الاستخفاف بتاريخ
العراق وشعبه، لا بل فيه تشويه لتاريخ المنطقة برمته، بشكل
لا يدعو للتفاؤل مطلقاً، وفيه نبرة من التطرف تشبه تلك التي
كان يرددها العروبيون. فكل متاحف العالم وكتب التاريخ
ومصادره توضح وبدون شك أن كركوك وأيضاً الموصل واربيل...
كلها مدن عراقية رافدينية، قد قدم اليها الاكراد من جبال
زاغاروس المجاورة للعراق في الازمنة المتأخرة.
وقاد هؤلاء القادمون حملات تكريد شرسة ضد السكان المحليين
لهذه المدن بدعم عثماني واحيانا فارسي، وبالتالي تم ازاحة
العراقيين من السريان (الكلدوآشوريون) والعرب واليزيد نحو
وسط وجنوب العراق او الخارج. لقد وفق الاكراد تدريجياً، ومنذ
بدايات القرن التاسع عشر في تغيير الخارطة الاثنية واللغوية
في شمال العراق لصالحهم وتغيير تسميته التاريخية "الجزيرة"
الى (كردستان).
ويذكر المؤرخون عن سياسات التكريد الشرسة وعلى سبيل
المثال: ان احد امراء الاكراد وهو محمد باشا الكردي[i]
والمعروف بالامير"كور": (في عام 1832 م استولى على قرى اثور،
ونهب قرية حطارة "من أعمال الشيخان" وقتل من القوش "قرية
كلدانية في شمال العراق" مئة واثنين وسبعين رجلا ما عدا
النساء والاطفال وعاث في قرى الشيخان قتلاً ونهباً، كما قتل
علي بك امير اليزيدية. .. وقتلوا في بازبدي "منطقة سريانية
تم تكريدها، حاليا في تركيا" مئتي رجل وقساً وشمامسة كثيرون.
ومن اسفس ثمانين رجلاً ووجيها وقسيساً، وسبوا النساء
والاطفال، في مطلع تشرين الاول سنة 1834. وكبدوا اليزيدية في
شرق الموصل محنا كثيرة وقتلوا منهم خلقاً كثيراً ..).
بعد هذه الأحداث والاضطهادات المؤلمة ظهر على مسرح
الأحداث الأمير الكردي المعروف بدرخان بك عام 1840 الذي
يعتبر وحسب تعبير الباحث العراقي هرمز ابونا، اول طاغية في
العصر الحديث، وكثرة المصادر التي تتحدث عن تاريخه القاتم
تغنينا هنا عن الغوص في مظالمه ضد العراقيين وأيضاً
السوريين.
أما بالنسبة للصراع على منطقة (كركوك) فيتم تجاهل حقيقة
جدا مهمة: وهي أنها مدينة عراقية رافدية بكل مقاييس العرف
والتاريخ وعلم الاثار، ووجود اكراد او تركمان في هذه المنطقة
بغض النظر عن حجمهم أو عددهم، لا يلغي عراقيتها وتاريخها.
ويكفي أن نقول أنمنطقة كركوك اليوم هي ذات خصوصية تركمانية
فيها تجمعات مهمة للعرب والسريان والاكراد.. ونحن نتسائل هنا
من السيد البرزاني لماذا لا يقبل بالطروحات التي تدعو الى
قيام حكم ذاتي او حتى دولة تركمانية في كركوك؟ ان توجيه مثل
هذا السؤال الى اخوتنا الاكراد في الشمال العراقي يجعلهم
يتشنجون ويتوترون من سماعه مباشرة!
يبدو أن قضية الاكراد بات يفوح منها رائحة النفط
العراقي! وللعلم أن أقصى مطالب الاكراد في العراق ابان الحرب
العالمية الأولى، كانت تدور حول حصول الاكراد على حكم ذاتي
او حتى حق تقرير المصير في منطقة السليمانية فقط. والشيخ
محمود الذي نودي به رئيساً (لكردستان) عام 1922، اعتبر مدينة
السليمانية عاصمته. وكان الزعيم الكردي السابق الملا مصطفى
البرزاني الذي ساهم في قيام دولة مؤقتة للاكراد في ايران
(جمهورية مهاباد 1946)، أول من عبر عن أطماع الاكراد في
النفط العراقي الكركوكي من خلال الشعار الذي كان يردده: (كردستان
مع النفط ...)!؟ ومن هذه الزاوية نذكر، أن فشل العديد من
المفاوضات التي جرت ما بين الاكراد العراقيين وبغداد، كانت
بسبب الخلاف على (خارطة كردستان) وطموح الاكراد بتوسيع منطقة
الحكم الذاتي لتبتلع مدينة كركوك العراقية ((قدس الاكراد))!
لأن زعماء الاكراد يعلمون جيداً ان الاعلان عن دولة كردية
مستقبلاً في شمال العراق قبل تكريد كركوك (وأيضاً محافظة
نينوى)، يعتبر اعلاناًً لا نفع منه! ومن هنا تأتي مرونة
البارزاني بقوله: "أن الظروف الدولية والإقليمية لا تسمح
برفع شعار الدولة المستقلة.."!؟
___________________________________________________
[i]
"المصدر: كتاب تاريخ طور عبدين ص 362-363".
[i]
انظر جريدة الزمان في عددها الصادر بتاريخ (14 تشرين الثاني
2001).
(نشر هذا المقال في جريد القدس العربي،
العدد 3960، تاريخ 8/2/2002). |